Volume 2025, Number 0002
(2025)
Year 39 Issue No. 0002 July 2025 - special issue
كلمة العدد
تشكّل اجتهادات المحاكم العليا محورًا أساسيًا في تطوير الفكر القانوني وصياغة السياسات التشريعية داخل الدول؛ إذ لا يقتصر دورها على الفصل في النزاعات وتحقيق العدالة فحسب، بل يمتد ليترك أثرًا عميقًا على مناحي التشريع وممارسات المتقاضين على حدّ سواء. فقد أناط الدستور الإماراتي مثلًا بالمحكمة الاتحادية العليا مهمة الفصل في دستورية القوانين، وتفسير النصوص التشريعية، وحلّ التنازع بين الجهات القضائية، مع السعي المستمر لتوحيد المبادئ القانونية وإرساء مبدأ سيادة القانون وصيانة الحقوق والحرّيات.
وتتمثّل أهمية اجتهادات المحاكم العليا في قدرتها على معالجة الثغرات التشريعية ومواكبة التحولات المجتمعية والاقتصادية، لا سيّما في المجالات التجارية، والضريبية، والمدنية، والجنائية؛ إلا أنّ تعددية القضاة وتنوّع خلفياتهم القانونية والاجتماعية والثقافية، خاصة في تشكيلات المحاكم المكونة من قضاة ينتمون لدول مختلفة مثل دولة الإمارات، يؤدي غالبًا إلى تباين في قراءة النصوص القانونية وتفسيرها. وتظهر هذه الاختلافات واضحة في أسباب الاجتهاد؛ بحثًا عن مقاصد النصوص أو عند تقدير العدالة بين أطراف النزاع، حيث تلعب التجربة الشخصية والثقافة القانونية والاجتماعية لكلّ قاضٍ دورًا في بناء قناعته والحكم الصادر عنه.
وتتعدّد الأسباب التي تدعو إلى اختلاف الاجتهادات القضائية، ومن أبرزها: اختلاف فهم النصوص القانونية، حيث تتفاوت قدرة القضاة على استيعاب معاني النصوص ومقاصدها بحسب سعة العلم وعمق التحليل، فتتعدّد التفسيرات في نصوص قد تحمل أكثر من معنى أو غموض لغوي، بالإضافة إلى التنّوع في الخلفيات الثقافية والقانونية والاجتماعية للقضاة، لا سيّما في المحاكم ذات الهيئة متعددة الجنسيات كالتي تضمّ قضاة من دول مختلفة، ممّا ينعكس على اختلاف الرؤى والاجتهادات القضائية. كما أنّ تفاوت الاطلاع والتمكّن من النصوص والأدلة القانونية، حيث يمتلك بعض القضاة خبرات أو اطلاعًا أعمق على القضايا القانونية المختلفة، ما يؤثر على دقّة الأحكام ومبرّراتها، واختلاف مناهج الترجيح بين الأدلة القانونية، خاصة عند وجود نصوص متضاربة أو متعددة التفسير، حيث تختلف طرق التوفيق والاختيار بين القضاة؛ وممّا يرتبط بذلك تغيير أعضاء الهيئة القضائية عبر الزمن، ممّا يؤدي إلى تغيّر في اتجاهات الاجتهاد ويؤثّر على استقرار الأحكام القضائية.
ويترتّب على هذه الاختلافات آثار متعددة تتمثل في: دفع المشرّع إلى تعديل النصوص أو إصدار قوانين جديدة للوصول إلى توحيد الاجتهادات، ممّا يعزّز استقرار النظام القانوني، وإحداث حالة من عدم اليقين القانوني لدى المتقاضين الذين قد يجدون صعوبة في التنبؤ بنتائج القضايا بسبب تعدّد الاجتهادات، وتحفيز إنشاء هيئات قضائية متخصصة أو آليات لتوحيد الاجتهادات والحدّ من التباين في الأحكام، ودعم أهمية اختيار القضاة المؤهلين وتأهيلهم ثقافيًا وقانونيًا لضمان اتساق الاجتهاد واستقلاله.
ومن هذا المنطلق، تُولي المحاكم العليا في دولة الإمارات وغيرها من الدول اهتمامًا كبيرًا لوحدة المبادئ القضائية، حيث تُنشأ هيئات لتوحيد الاجتهاد وتقليل التضارب بين الدوائر القضائية، داعية إلى تأسيس سِجلّ متجدّد لتطور الاجتهادات القضائية.
كما يشكّل فهم هذه التباينات وأسبابها نقطة انطلاق لدعوة الباحثين والمحامين والدعاة إلى إثراء البحث العلمي، وتحليل الظواهر القانونية والاجتهادية لدى المحاكم العليا في مختلف المجالات، مثل القانون التجاري، الضريبي، المدني، والجنائي. فالتحليل النقدي، ودراسة الأحكام القضائية المتغيرة وإجراء الدراسات المقارنة يساهمان في بناء سرد تاريخي موضوعي يوضّح جذور الاختلاف، ويطرح رؤى لتوطيد الاجتهاد القضائي، ممّا يرتقي بالعدالة ويحفظ الحقوق ويعزّز سيادة القانون.
وتدعو هذه المجلة العلمية جميع المهتمّين في الحقل القانوني والبحثي إلى المساهمة في بناء علم الاجتهاد القضائي، وتحليل الأبعاد المتعددة لتنوع الاجتهادات القضائية لدى المحاكم العليا وسببها وأثرها القانوني والاجتماعي؛ لخلق منظومة قضائية متطورة وموحّدة تراعي الخصوصيات المحلية والدولية، وتعبّر عن روح العدالة الحقّة في عالم متغيّر ومتعدّد الثقافات.
رئيس التحرير
د. محمد شاكر الحمادي