•  
  •  
 

Volume 2006, Number 25 (2006) Year 20, Issue No. 25 January 2006

ذين لا يرعون لله حرمة، ولا للمؤمنين إلاً ولا ذمة، ولا يفرقون بين الكبير والصغير، والبريء والمجرم، ويفسدون في الأرض، ناشرين الخوف والرعب والدمار والبلاء، ويتسببون بالمحن والإحن للأمة؛ وبين الجهاد وحقّ الدفاع المشروع في جميع الشرائع السماوية، بل والقوانين الوضعية والأعراف الدولية القاضية بحقّ الشعوب المستضعفة الرازحة تحت نار الاستعمار في ممارسة حق الدفاع المشروع لاستخلاص حقوقهم المشروعة، وهذا ما أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العديد من قراراتها. إنّ ما يقوم به بعض المنحرفين والجاهلين بحقيقة الإسلام مستغلّين الكثير من الشباب المغرّر بهم لقتل الأبرياء وترويع الآمنين، وهدم المباني والممتلكات، واستخدام وسائل القتل المطورة بقصد قتل أكبر عدد ممكن، كلُّ ذلك جرائم شنيعة، والإسلام والمسلمون برءآء من هذه الأعمال الإجرامية التي لم تَعُد على أمّة الإسلام إلا بالبلاء والمحن. هذه الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة والصنائع الممقوتة الّتي ارتكبها هؤلاء، راح ضحيّتها المئات من الناس بين مسلمين وغيرهم، قتلوا غيلة وغدرًا وعلى حين غرّة، وتحوّلت بسببها الأفراح إلى أحزان، وانقلب الصبيان إلى يتامى، وأصبحت النساء أرامل وثكالى. هؤلاء الّذين سفكوا الدماء ونشروا الخراب، وعادوا بالشر على أمتهم، وشوّهوا صورة الإسلام السمحة ودعوة الإسلام العظيمة التي لم تأت إلا لصلاح الدنيا والدين، ولم يأت رسول الله r إلا لإتمام مكارم الأخلاق، ولم يبعث صلوات ربي وسلامه عليه إلا رحمة للعالمين. إنّ الإرهاب قد عظم شرّه، وانتشر شرره، وجلّ خطره، وهو دخيل على المجتمعات الإسلامية، وهو عمل غريب وفظيع ومقحم على المجتمعات الآمنة المسالمة، وغريب على شعوبها المحبة للخير والبر والمرحمة، وهو عمل مقيت وبغيض عند كل من لديه عقل وبصيرة. هذه الحوادث تسببت في قتل عدد من المسلمين عمدًا، وهو أمر محرم في الشريعة الإسلامية حرمةً قطعيةً، ومن المعلوم من الدين بالضرورة، وتوجب غضب الله سبحانه وتعالى ولعنته وعظيم عذابه يوم القيامة، قال تعالى: )ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا(. كما تمّ في العديد من الحوادث قتل جماعة من السكان والمقيمين في البلاد الإسلامية من غير المسلمين، وهم من المستأمنين الذين لا يجوز قتلهم، قال سبحانه: ) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق(، وقال r : « من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة ». تسبّب هؤلاء الجناة في ترويع الآمنين، وبثُّوا الرعب والهلع بين الناس بما قاموا به من تفجيرات في جنح الليل المظلم، وبما تسببوا فيه من تفجيرات هائلة أحدثت قتلاً ودماراً شاملاً، واستغلها الأعداء لتشويه صورة الإسلام السمحة. أقدم بعض هؤلاء على قتل أنفسهم عمدًا في هذه الجرائم البشعة التي أودت بحياة الآمنين فألقوا بأيديهم إلى التهلكة التي حرم الله، قال الله جلّ جلاله: ) ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة (، وقال عزّ وجلّ : ) ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما % ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على الله يسيرا (. إنّ هذه الوقائع والجرائم اجتمع لها العديد من العناصر التي هي من المحرمات القطعية في دين الإسلام وتدخل في الإفساد في الأرض، حيث تضمّنت القتل والترويع والأذى والضرر وهدم المنشآت والخروج على ولاة الأمر، وقد شرع الله سبحانه وتعالى الجزاء الرادع لهذه الأعمال، وعدَّها محاربة لله ورسوله، قال تعالى: )إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم(. إنّ هذه الأنواع من القتل والترويع والأذى والإضرار بالناس والممتلكات وإرعاب الناس؛ ليس من الجهاد في شيء، وإنما هي من جرائم الإرهاب المحرّم الّذي يتضمّن إزهاق الأرواح وإراقة دماء الناس الآمنة، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، وتأكيدًا لحرمة إراقة الدماء وإزهاق الأرواح؛ قال الله سبحانه وتعالى: )وكتبنا عليهم فيها أنّه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا(. لابد أن يحذر هؤلاء -الذين استهوتهم الأعمال الإرهابية من جهلة المسلمين ومنحرفيهم- من الحساب الإلهي يوم القيامة، كما أنّ على سائر المسلمين أن يحذروا الانخداع بما يعرضه هؤلاء القتلة من شعاراتٍ زائفة ليبرّروا بغيهم وفسادهم في الأرض، فقد شنّع الإسلام على هؤلاء أذاهم وفسادهم، قال عزّ وجلّ: )ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام% وإذا تولّى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يُحبُّ الفساد % وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد(. إنّ الإرهاب لا وطن له، وهو لا ينتسب إلى دينٍ ولا جنسية، ولكن مشاركة بعض المنتسبين إلى الإسلام في هذه الأعمال، سبّب إساءةً بالغةً إلى الإسلام وإلى الأمة المسلمة، فقد اتخذ أصحاب الحملات على الإسلام من أعمال هؤلاء ذريعة لاتهام الإسلام والتطاول على صاحب الرسالة الخاتمة نبينا محمد r، وسبّ المسلمين واتهامهم بما ليس فيهم، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن سبّ ما يتخذه غير المسلمين آلهة لهم يعبدونهم من غير الله ؛ سدًا لذريعة الاستفزاز، قال تعالى : ) ولا تَسُبُّوا الذين يدعون من دون الله فيَسُبُّوا الله عَدْوًا بغير علم (، مع أنّ هؤلاء يرتكب كثيرٌ منهم جرائم أكثر وحشيّة، وأشدّ تدميرًا , ومع ذلك لا ينسبون جرائمهم إلى دينهم ومعتقداتهم. إنّ من القواعد المقررة في تغير المنكر النهي عن القيام بذلك إذا أدى الإنكار إلى منكر أشد منه نُكرًا، وما نشاهده ونحسّه ونتيقّنه هو أنّ هذه الأعمال جلبت الكثير من البلاء والمحن لأمة الإسلام وأضرت بصورة الإسلام والقائمين على نشره ونشر قيمه والدعوة إلى تعاليمه فأصبحوا يعانون من تضييق وفتن ومخاطر من متطرفين آخرين. إنّ المتتبع لنصوص الشريعة يرى النهي عن الإرهاب المذموم في شتى صوره، وبمختلف تسمياته، فالإسلام ينبذ التطرّف والتنطّع والغُُلُوَّ والتشدُّد؛ حيث كلُّ ذلك مجاوزةٌ لحدّ الاعتدال، وما الإرهاب والعنف إلا نتائج للتطرف والتنطع والغلو والتشدد، فإن الإنسان إذا تشدد لجأ إلى العنف ويحصل بعد ذلك الإرهاب للناس. أما التطرف فهو مذمومٌ في الإسلام بجميع صوره، حيث لا يأتي بخير، والمسلم مطالبٌ بالقصد في الأمور وسلوك نهج الاعتدال دون إفراطٍ أو تفريط؛ قال تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا(. وأمّا التنطع وهو التعمق في الشيء ومجاوزة حد الاعتدال في الأقوال والأفعال؛ فقد قال رسول الله r : « هلك المتنطعون » قالها ثلاثًا ؛ قال النووي رحمه الله في شرح الحديث: "المتنطعون: المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم". وأمّا الغلو فهو مجاوزة الحدود والقدر، يقال : غلا في الدين إذ تشدد وجاوز حد الاعتدال، وقد روى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r غداة العقبة وهو على ناقته: « ألقط لي حصىً » فلقطت له سبع حصيات هنّ حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول: « أمثال هذا فارموا » ثم قال: «يا أيها الناس إياكم والغُلُوَّ في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ». وأمّا التشدد فهو بمعنى طلب الشدة ؛ وقد ثبت عن النبي r أنّه قال: « إنّ الدِّين يُسْرٌ ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه، فسددّوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرَّوحة وشيء من الدلجة»، وقد قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله : "والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كلّ متنطع في الدين ينقطع"، وسددوا أي الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط. وأمّا العنف فهو الشدة والمشقة وهو مضادٌّ للرفق، قال ابن الأثير رحمه الله : "وكلّ ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله"، كيف لا وقد قال رسول الله r : « إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق » ؛ دخل اليهود على النبي r فقالوا: " السام عليك"، فقال النبي r : «السام عليكم»، فقالت عائشة رضي الله عنها: "السام عليكم يا إخوان القردة والخنازير، ولعنة الله وغضبه"، فقال r : « يا عائشة مه»، فقالت : "يا رسول الله أو ما سمعت ما قالوا؟" قال r : « أو ما سمعتِ ما رددتُ عليهم يا عائشة؟ لم يدخل الرفق في شي إلا زانه ولم يُنزع من شيء إلا شانه» وفي حديث آخر : « يا عائشة! إنّ الله رفيقٌ يُحبُّ الرفق ويُعطي على الرفق ما لا يُعطي على العنف ومالا يُعطي على ما سواه ". فهل بعد هذه النصوص المتضافرة يمكن لقائلٍ أن يدّعي أنّ الإسلام دين الإرهاب وأنه يدعو إلى العنف والتشدد أو التطرف؟ سبحانك هذا بهتانٌ عظيم. أثناء الطبع : تلقينا ببالغ الأسى والحزن- والمجلة تحت الطبع- نبأ الفاجعة الّتي ألمّت بدولة الإمارات العربيّة المتحدة بوفاة فقيد الوطن صاحب السموّ الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم صاحب الأيادي البيضاء، والخير الكثير، والكرم العميم، كيف لا وقد كان أحد أركان هذا الاتحاد الشامخ، وساهم في نهضة شاملة في دولة الإمارات عمومًا وإمارة دبي خصوصًا. وقد كان رحمه الله معروفًا بأخلاق فاضلة، متّعه ربّه بحبّ الخير، وجبل فيه خصلة الكرم، وميّزه بالعطف والشفقة والبرّ، يرتاد مجلسه القاصي والداني، فلا يرجع إلا بقضاء مسألته، وتلبية غرضه، أحبّ شعبه فبادلوه حُبًّا بحبّ، ومضى إلى ربّه والألسنة تلهج بالثناء عليه والدعاء له. نسأل الله له المغفرة والرحمة والرضوان، وأن يسكنه أعلى فراديس الجنان، وأن يجزيه عنا وعن شعب الإمارات خير الجزاء، وأن يلهم آل مكتوم الكرام وشعب الإمارات الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون. اللهمّ إنّ مكتوم بن راشد في ذمّتك وحبل جوارك، وأنت أهل الوفاء والحمد، نزل بفنائك وأنت خير منزولٍ به، وهو محتاجٌ إلى رحمتك ورضوانك وأنت أرحم الراحمين، اللهمّ فاغفر له، وقِهِ فتنة القبر وعذاب النار. اللهم أنت ربّه، وأنت خلقته، وأنت هديته للإسلام، وأنت قبضت روحه، وأنت أعلم بسرّه وعلانيته، وقد جئناك شفعاءَ له فاغفر له. اللهم أكرم نزله، ووسّع مدخله، واجعل في أعلى علّيين منزله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقّه من الخطايا والذنوب كما نقّيت الثوب الأبيض من الدنس. اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعفُ عنه، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلا خيرًا من أهله، وأدخله الجنّة، وأعذه من النار. اللهمّ جازه بالحسنات إحسانا، وبالسيئات عفوًا وغُفرانًا، واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. اللهمّ اغفر لمكتوم وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، ولا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين. عزاؤنا في فقد الفقيد الغالي؛ هو تولّي صاحب السموّ الشيخ محمّد بن راشد آل مكتوم مقاليد الحكم في إمارة دبي ونيابة رئاسة الدولة ورئاسة مجلس الوزراء، وكلنا ثقة في كونه خير خلفٍ لخير سلف، حيث يُعرف عنه الحصافة في الرأي، والإبداع في الفكر، والروعة في الإدارة، والحكمة في اتخاذ القرارات، والحرص على التطوير والتقدم، مع ما تأصّل فيه من محبّة الدّين وأهله، والتنافس في الخير، والكرم والبذل والعطاء، وقضاء حوائج الناس. نسأل الله له أن يسدّد على درب الخير خطاه، وأن يشمله بعنايته ويكلأه برعايته، وأن يمنحه دوام التوفيق للعمل السديد الرشيد، وأن يعينه على ما تولاه من أمر الأمّة وما عُهد إليه من مسؤوليات جسيمة، وأن يرزقه البطانة الصالحة الّتي تعينه على الخير وتحثّه عليه، وأن يُطيل في الخير عمره، ويبقيه ذخرًا للإسلام والمسلمين. كلمة أخيرة : بين أيديكم العدد الخامس والعشرون من مجلّة الشريعة والقانون، وهو حافلٌ بالعديد من البحوث القيّمة فضلاً عن نشر مخطوطة قيّمة لم يسبق نشرها في علوم القرآن، ويسعدنا أن يكون هديّة هذا العدد قانون الأحوال الشخصيّة في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة. وبدءًا من هذا العدد أصبحت المجلّة بعون الله وتوفيقه فصليّة، تصدر كلّ ثلاثة أشهر، ولم يأت هذا التطوّر من فراغ، بل نتيجة جهودٍ دؤوبة بُذلت، فأصبحت المجلّة تُنافس أرقى المجلات العلميّة المحكّمة، حيث تتمتع بالرصانة العلميّة مع الحزم ودقّة الاختيار وصرامة التحكيم وجودة الطبع وجمال المنظر. وباتت المجلة تصدر في صورٍ ثلاث، نسخة ورقيّة، وأخرى على اسطوانات مرنة (CD)، وثالثة عبر موقع المجلّة على شبكة الإنترنت. والمجلّة ماضية في سبيل التقدم والتطور، ولن يعيقها بإذن الله عائق، وهي لكم وبكم أيها الباحثون والقرّاء، ماضية قُدُمًا تنتظر مساهماتكم الأصيلة والجادّة، وملاحظاتكم الهادفة والبنّاءة، سائلين المولى القدير أن يمكننا من السير على نهج الحقّ والرشاد، وأن يجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله وسلّم على خاتم النبيّين وإمام المرسلين، المبعوث رحمةً للعالمين، سيّدنا محمّد r وعلى آله وصحبه أجمعين. د. محمد عبد الرحيم سلطان العلماء رئيس التحرير

Articles